فصل: باب مَنِ اسْتَعَانَ بِالضُّعَفَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِى الْحَرْبِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب فَضْلِ الطَّلِيعَةِ

فيه‏:‏ جَابِر، قَالَ الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ يَأْتِينِى بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَوْمَ الأحْزَابِ‏)‏‏؟‏ قَالَ الزُّبَيْرُ‏:‏ أَنَا، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ يَأْتِينِى بِخَبَرِ الْقَوْمِ‏)‏‏؟‏ قَالَ الزُّبَيْرُ‏:‏ أَنَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ لِكُلِّ نَبِىٍّ حَوَارِيًّا، وَحَوَارِىَّ الزُّبَيْرُ‏)‏‏.‏

وترجم له ‏(‏باب‏:‏ هل يبعث الطليعة وحده‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه أن الطليعة يستحق اسم النصرة؛ لأن الرسول سماه‏:‏ حوارى، ومعنى هذه التسمية أن عيسى ابن مريم لما قال لقومه‏:‏ ‏(‏من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله ‏(‏فلم يجبه غيرهم، فكذلك لما قال الرسول‏:‏ ‏(‏من يأتينى بخبر القوم‏)‏ مرتين لم يجبه غير الزبير، فشبهة بالحواريين أنصار عيسى، وسماه باسمهم، وإذا صح من هذا الحديث أن الطليعة ناصر، فأجره أجر المقاتل المدافع؛ قام منه الدليل على صحة قول مالك أن طليعة اللصوص يقتل مع اللصوص، وإن كان لم يقتل ولم يسلب، وكذلك قال عمر بن الخطاب‏:‏ لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به‏.‏

وفيه شجاعة الرئيس وتقدمه وفضله، وفيه الأدب من الإمام فى الندب إلى القتال والمخاوف؛ لأنه كان للنبى أن يقول لرجل بعينه‏:‏ قم فائتنى بخبر القوم، فلزم الرجل ذلك؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم ‏(‏وزعم بعض المعتزلة أن بعث النبى الزبير طليعة وحده يعارض قوله‏:‏ ‏(‏الراكب شيطان‏)‏ ونهيه عن أن يسافر الرجل وحده‏.‏

قال المهلب‏:‏ وليس فى ذلك تعارض بحمد الله لاختلاف المعنى فى الحديثين، وذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الراكب شيطان‏)‏ إنما جاء فى المسافر وحده، لأنه لا يأنس بصاحب ولا يقطع طريقه محدث يهون عليه مؤنة السفر، كالشيطان الذى لا يأنس بأحد، ويطلب الوحيد ليغويه بتذكار فتكة وتدبير شهوة، حضًا منه صلى الله عليه وسلم على الصحبة، والمرافقة لقطع المسافة، وطى بعيد الأرض بطيب الحكاية، وحسن المعاونة على المؤنة، وقصة الزبير بضد هذا‏.‏

بعثه طليعة عينًا متجسسًا على قريش ما يريدونه من حرب الرسول، فلو أمكن أن يتعرف ذلك منهم بغير طليعة‏.‏

لكان أسلم وأخف، ولكن أراد أن يبين لنا جواز العذر فى ذلك لمن احتسب نفسه وسخى بها فى نفع المسلمين وحماية الدين، ومن خرج فى مثل هذا الخطير من أمر الله لم يعط الشيطان أذنه ليصغى إلى خدعه، بل عليه من الله حافظ، وبعد ألا ترى تثبيت الله له حين نادى أبو سفيان فى المشركين‏:‏ ليعرف كل إنسان منكم جليسه‏.‏

فقال الزبير لمن قرب منه‏:‏ من أنت‏؟‏ فسبق بحضور ذهنه إلى ما لو سبقه إليه جليسه لكان سبب فضيحته، ولو أرسل معه غيره لكان أقرب إلى أن يعثر عليهما، فالوحدة فى هذا هى الحكمة البالغة، وفى المسافر هى العورة البينة، ولكل وجه من الحكمة غير وجه الآخر لتباين القصص واختلاف المعانى، وفى الباب الذى بعد هذا شيء من هذا المعنى‏.‏

باب سَفَرِ الاثْنَيْنِ

فيه‏:‏ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، انْصَرَفْتُ مِنْ عِنْدِ الرسول صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَنَا- أَنَا وَصَاحِبٍ لِى-‏:‏ ‏(‏أَذِّنَا وَأَقِيمَا، وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا‏)‏‏.‏

إن قال قائل‏:‏ إباحته صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث وصاحبه أن يؤذنا ويقيما عند انصرافهما من عنده، يعارض قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الراكب شيطان، والراكبان شيطانان‏)‏ ونهيه أن يسافر الرجل وحده‏.‏

قيل‏:‏ ليس كما توهمت؛ لأنه لا يجوز على أخباره التضاد‏.‏

قال الطبرى‏:‏ ونهيه عن سفر الرجل وحده والاثنين نهى أدب وإرشاد لما يخشى على فاعل ذلك من الوحشة بالوحدة لا نهى تحريم، وذلك نظير نهيه عن الأكل من وسط الطعام، وعن الشرب من فى السقاء، والنهى عن المبيت على السطح غير المحجور، وكل ذلك تأديب لأمته، وتعريف لهم منه ما فيه حظهم وصلاحهم، لا شريعة ودين يحرجون بتضييعه وترك العمل به، فالعامل محتاط لنفسه من مكروه يلحقه إن ضيعه‏.‏

وذلك أن السائر فى فلاة وحده والبائت فى بيت وحده إذا كان ذا قلب مخيف وفكر رديء لم يؤمن أن يكون ذلك سببًا لفساد عقله، والنائم على سطح غير محجور عليه غير مأمون أن يقوم بوسن النوم وغمور فهمه فيتردى منه فيهلك، والشارب من فى السقاء غير مأمون عليه انحدار ما خفى عليه استكنانه من الهوام القاتلة فى السقاء فيهلك أيضًا، وكذلك المسافر مع آخر قد يخشى من غائلته ولا يأمن مكره، فإذا كانوا ثلاثة أمن ذلك فى الأغلب، وهذا وما أشبهه من تأديبه صلى الله عليه وسلم لأمته‏.‏

وأيضًا فإن الناس مختلفوا الأحوال متفاوتوا الأسباب فمن كَمِىٍّ باسل لا يهوله هائل ولا يبقى غول غائل، فهو لا يبالى وحده سلك المفاوز أو فى عسكر، فذلك الذى أذن عمر فى السير لمثله من المدينة إلى الكوفة وحده حين بلغه عن سعد أنه بنى قصرًا أو أمره بإحراق بابه، ومن مخيف الفؤاد يروعه كل منظر، ويهوله كل شخص، ويفزعه كل صوت، فذلك الذى يحرم عليه أن يسافر وحده ويمكن أن يكون الذى نهاه الرسول أن يبيت وحده كان بهذه الصفة، ومن أخذ بين ذلك الاحتياط له فى نفسه ودينه ترك السفر وحده ومع آخر أيضًا، فمن كان الأغلب عليه الشجاعة، والقوة لم يكن إن شاء الله حرجًا ولا آثمًا، ومن كان الأغلب من قلبه الهلع ومن نفسه الخور خشيت عليه فى السفر وحده الإثم والحرج وأن يورثه ذلك العلل الردية‏.‏

باب الْخَيْلُ مَعْقُودٌ بنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ

فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، وعُرْوَةَ، قَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِى نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أَنَس، قَالَ الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الْبَرَكَةُ فِى نَوَاصِى الْخَيْلِ‏)‏‏.‏

وترجم له باب ‏(‏الْجِهَادُ مَاضٍ مَعَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ‏)‏ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الخيل معقود فى نواصيها الخير إلى يوم القيامة‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ عُرْوَةُ الْبَارِقِىُّ قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِى نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏:‏ الأجْرُ وَالْمَغْنَمُ‏)‏‏.‏

قال بعض أهل العلم‏:‏ معناه الحث على ارتباط الخيل فى سبيل الله يريد أن من ارتبطها كان له ثواب ذلك فهو خير آجل، وما يصيب على ظهرها من الغنائم وفى بطونها من النتاج خير عاجل، وخص النواصى بالذكر؛ لأن العرب تقول‏:‏ فلان مبارك الناصية، فيكنى بها عن الإنسان‏.‏

وقال المهلب‏:‏ استدلال البخارى صحيح أن الجهاد ماض مع البر والفاجر إلى يوم القيامة‏.‏

من أجل أنه أبقى صلى الله عليه وسلم الخير فى نواصى الخيل إلى يوم القيامة‏.‏

وقد علم أن من أئمته أئمة جور لا يعدلون، ويستأثرون بالمغانم، فأوجب هذا الحديث الغزو معهم، ويقوى هذا المعنى أمره بالصلاة وراء كل بر وفاجر من السلاطين، وأمره بالسمع والطاعة ولو كان عبدًا حبشيا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فالأجر والمغنم‏)‏ يفسر قوله‏:‏ ‏(‏مع ما نال من أجر أو غنيمة‏)‏ أن ‏(‏أو‏)‏ بمعنى الواو فكأنه قال‏:‏ ‏(‏مع ما نال من أجر وغنيمة أو أجر‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏الخيل فى نواصيها الخير‏)‏ لفظه لفظ العموم، والمراد به الخصوص؛ لأنه لم يرد إلا فى ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ الخيل بدليل قوله‏:‏ ‏(‏الخيل لثلاثة‏)‏ فبين أنه أراد الخيل الغازية فى سبيل الله، فإن الخير المعقود فى نواصيها إنما هو أجر فى سبيل الله، لا أنها على كل وجوهها معقود فى نواصيها الخير، بل إذا كانت مستعملة فى سبيل الله أو معدة لذلك؛ فإن الإنفاق عليها خير أو أجر دون ما كان منها وزرًا، وقال مثله ابن المنذر‏.‏

والناصية‏:‏ الشعر المسترسل على الجبهة، عن الخطابى‏.‏

باب مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ

لِقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ترهبون به‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 60‏]‏‏.‏

فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىُّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا فِى سَبِيلِ اللَّهِ إِيمَانًا بِاللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِهِ، فَإِنَّ شِبَعَهُ وَرِيَّهُ وَرَوْثَهُ وَبَوْلَهُ فِى مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا الحديث يدل أن الأحباس جارية فى الخيل والرياع وغيرها؛ لأنه إذا جاز ذلك فى الخيل للمدافعة عن المسلمين وعن الدين والنفع لهم بجر الغنائم والأموال إليهم، فكذلك يجوز فى الرياع المثمرة لهم، وما وصف الرسول من الروث وغيره فإنما يريد ثوابه؛ لأن الروث لا يوزن بل أجره، ولا تقول إن زنة الأجر زنة الروث بل أَضعافه إلى ما شاء الله‏.‏

وفيه أن النية قد يؤجر الإنسان بها كما يؤجر العامل؛ لأن هذا إنما احتبس فرسه ليقاتل عليه ويغير، فيعوض من أجدر العمل المعدوم فى ترك استعماله فيه، فعد نفقاته وأرواثه أجرًا له، مع أنه فى رباطه نافع؛ لأن الإرهاب بارتباطه فى نفس العدو وسماعهم عنه نافع‏.‏

وفيه أن الأمثال تضرب لصحة المعانى وإن كان فيها بعض المكروهات الذكر‏.‏

باب اسْمِ الْفَرَسِ وَالْحِمَارِ

فيه‏:‏ سَهْل، كَانَ للرسول صلى الله عليه وسلم فِى حَائِطِنَا فَرَسٌ، يُقَالُ لَهُ‏:‏ اللُّحَيْفُ‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو قَتَادَةَ، أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ الرسول صلى الله عليه وسلم فَتَخَلَّفَ أَبُو قَتَادَةَ، فَرَكِبَ فَرَسًا يُقَالُ لَهُ‏:‏ الْجَرَادَةُ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

وفيه‏:‏ مُعَاذ بن جبل، كُنْتُ رِدْيفَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ، يُقَالُ لَهُ‏:‏ عُفَيْرٌ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِى حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ‏)‏‏؟‏ الحديث‏.‏

وفيه‏:‏ أَنَس، كَانَ فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ، فَاسْتَعَارَ الرسول صلى الله عليه وسلم فَرَسًا يُقَالُ لَهُ‏:‏ الْمَنْدُوبٌ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا رَأَيْنَا مِنْ فَزَعٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا‏)‏‏.‏

قَالَ البخارى‏:‏ قَالَ بَعْضُهُمُ‏:‏ اللُّخَيْفُ بالخَاءِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فقه هذا الباب جواز تسمية الدواب بأسماء تخصها غير أسماء جنسها‏.‏

وقال الواقدى‏:‏ إنما سمى اللحيف لكثرة سبائبه يعنى‏:‏ ذنبه‏.‏

قال‏:‏ وكان للنبى صلى الله عليه وسلم فرس يقال له‏:‏ السكب، وآخر يقال‏:‏ اللزاز، وآخر يقال‏:‏ المرتجز، وإنما سمى‏:‏ السكب؛ لأن لونه يشبه لون الشقائق، وأنشد الأصمعى‏:‏

كالسكب المحبر فوق الرابية ***

وكذلك المرتجز إنما سمى بذلك؛ لحسن صهيله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إن وجدناه لبحرًا‏)‏ والبحر‏:‏ الفرس الواسع الجرى‏.‏

قال الأصمعى‏:‏ يقال‏:‏ فرس بحر وفيض وحث وغمر‏.‏

وقال نفطويه‏:‏ معناه‏:‏ كثير الجرى‏.‏

قال الخطابى‏:‏ وذكر الواقدى أنه كان اسم حماره‏:‏ يعفور، قال‏:‏ وإنما سمى بذلك لعفرة لونه، والعفرة‏:‏ حمرة يخالطها بياض‏.‏

يقال له‏:‏ أعفر ويعفور، وأخضر ويخضور، وأصفر ويصفور، وأحمر ويحمور‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وعفير من المعفرة، وهو تصغير أعفر، وقال الطبرى‏:‏ وقد حدثنى عبد الرحيم البرقى، قال‏:‏ حدثنى عمرو بن أبى سلمة، عن زهير، عن محمد قال‏:‏ اسم راية الرسول‏:‏ العقاب، وفرسه‏:‏ المرتجز، وناقته‏:‏ العضباء والجدعاء، والحمار‏:‏ يعفور، والسيف‏:‏ ذو الفقار، والدرع‏:‏ ذات الفضول، والرداء‏:‏ الفتح، والقدح‏:‏ الغمر‏.‏

فإذا كان ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم فى أملاكه، وكان الله قد ندب خلقه إلى الاستنان به والتأسى فيما لم ينههم عنه، فالصواب لكل من أنعم الله عليه وخوله رقيقًا أو حيوانًا من البهائم والطير أو غير ذلك أن يسميه باسم كما فعل النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

وعلم بذلك أن المرتدين لما ادعوا أنساب الخيل لم يتعدوا فى ذلك إذ كان لها من الأسماء مثل ما لبنى آدم، يميزوا بها بين أعيانها وأشخاصها، إذ الأسماء إنما هى أمارات وعلامات‏.‏

باب مَا يُذْكَرُ مِنْ شُؤْمِ الْفَرَسِ

فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِى ثَلاثَةٍ‏:‏ فِى الْفَرَسِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالدَّارِ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ سَهْل، قَالَ الرسول‏:‏ ‏(‏إِنْ كَانَ فِى شَىْءٍ، فَفِى الْمَرْأَةِ، وَالْفَرَسِ، وَالْمَسْكَنِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏إنما الشؤم فى ثلاث‏)‏ فحقيق فى ظاهر اللفظ حين لم يستطع أن ينسخ التطير من نفوس الناس، فأعلمهم أن الذى يعذبون به من الطيرة لمن التزمها إنما هو فى ثلاثة أشياء وهى الملازمة لهم، مثل دار المنشأ والمسكن، والزوجة التى هى ملازمة فى حال العيش اليسير، والفرس الذى به عيشه وجهاده وتقلبه، فحكم صلى الله عليه وسلم بترك هذه الثلاثة الأشياء لم ألزم التطير حين قال فى الدار التى سكنت، والمال وافر، والعدد كثير؛ اتركوها ذميمة خشية ألا يطول تعذب النفوس بما يكره من هذه الثلاثة ويتطير به، وأما غيرها من الأشياء التى إنما هى خاطرة وطارئة، وإنما تحزن بها النفوس ساعة أو أقل مثل الطائر المكروه الاسم عند العرب بمن يرحل منهم، فإنما يعرض له ذلك فى حين مروره به، فقد أمر صلى الله عليه وسلم فى مثل هذا وشبهه لا يضر من عرض له بأمر فى المرأة والفرس والدار خلاف ذلك؛ لطول التعذب بها‏.‏

وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ثلاثة لا يسلم منهن أحد‏:‏ الطيرة والظن والحسد؛ فإذا تطيرت فلا ترجع، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق‏)‏‏.‏

وحكى بعض المعتزلة أن أحاديث الشؤم يعارضها قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا عدوى ولا طيرة‏)‏‏.‏

وسأذكر ما فسر به العلماء ذلك ونفى التعارض عنها فى كتاب الطب عند قوله‏:‏ ‏(‏لا عدوى ولا طيرة‏)‏ إن شاء الله‏.‏

باب الْخَيْلُ لِثَلاثَةٍ

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 8‏]‏‏.‏

فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الْخَيْلُ لِثَلاثَةٍ‏:‏ لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِى هِى لَهُ أَجْرٌ‏:‏ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَطَالَ لهَا فِى مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، فَمَا أَصَابَتْ فِى طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنَ الْمَرْجِ، أَوِ الرَّوْضَةِ، كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَت طِيَلَهَا ذَلِكَ وَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَينِ كَانَتْ آَثَارُهَا وَأَرْوَاتُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ فَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِئَاءً وَنِوَاءً لأهْلِ الإسْلامِ فَهِىَ وِزْرٌ عَلَى ذَلِكَ‏)‏‏.‏

وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْحُمُرِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا أُنْزِلَ عَلَىَّ فِيهَا إِلا هَذِهِ الآيَةُ الْجَامِعَةُ الْفَاذَّةُ‏)‏‏:‏ ‏(‏فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7‏]‏ الحديث‏.‏

إن المرء لا يؤجر فى اكتسابها لأعيانها، وإنما يؤجر بالنية الخالصة فى استعمال ما ورد الشرع بالفضل فى عمله؛ لأنها خيل كلها، وقد اختلف أحوال مكتسبيها لاختلاف النيات فيها‏.‏

وفيه‏:‏ أن الحسنات تكتب للمرء إذا كان له فيها سبب وأصل، تفضلا من الله على عباده المؤمنين؛ لأنه ذكر حركات الخيل وتقلبها ورعيها وروثها وأن ذلك حسنات للمجاهد، والطيل‏:‏ الحبل الذى تربط به الدابة، ويقال له‏:‏ طول أيضًا‏.‏

قال طرفة‏:‏ لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى لكالطول المرخى وثنياه باليد ومعنى الكلام‏:‏ أن فرس المجاهد ليمضى على وجهه فى الحبل الذى أطيل له فيكتب له بذلك حسنات‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏استنت شرفًا أو شرفين‏)‏ والاستنان أن تأخذ فى سنن على وجه واحد ماضيًا وهو يفتعل من السنن وهو القصد، ويقال‏:‏ فلان يستن الريح إذا كان على جهتها وممرها، وأهل الحجاز يقولون‏:‏ اسننها‏.‏

ويقال فى مثل‏:‏ ‏(‏استنت الفصال حتى القرعى‏)‏ يضرب مثلا للرجل الضعيف، يرى الأقوياء يفعلون شيئًا فيفعل مثله‏.‏

والشرف‏:‏ ما ارتفع من الأرض‏.‏

وقوله‏:‏ تغنيًا يعنى‏:‏ استغناء، يقال منه‏:‏ تغنيت تغنيًا، وتغانيت تغانيًا، واستغنيت استغناء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏نواء‏)‏ هو مصدر ناوأت العدو مناوأة ونواء وهى‏:‏ المساواة‏.‏

قال أهل اللغة‏:‏ أصله من ناء إليك ونؤت إليه، أى‏:‏ نهض إليك ونهضت إليه وفى كتاب العين‏:‏ ناوأت الرجل‏:‏ ناهضته بالعداوة، والنواء‏:‏ العداوة، والفاذة هى‏:‏ المعددة، ويقال‏:‏ فاذة وفذة، وفاذ وفذ ومن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ‏)‏ ومعنى ذلك أنها متعددة فى عموم الخير والشر لا آية أعم منها‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لم ينزل على فى الحمر إلا هذه الآية‏:‏ ‏(‏فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ‏(‏فهذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم لأمته الاستنباط والقياس، وكيف تفهم معانى التنزيل؛ لأنه شبه صلى الله عليه وسلم ما لم يذكر الله فى كتابه وهى الحمر بما ذكره من عمل مثقال ذرة من خير إذ كان معناهما واحدًا، وهذا نفس القياس الذى ينكره من لا تحصيل له ولا فهم عنده؛ لأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ‏(‏يدخل فيه مع الحمر جميع أفعال البر دقيقها وجليلها، ألا ترى إلى فهم عائشة وغيرها من الصحابة هذا المعنى من هذه الآية حتى تصدقوا بحبة عنب وقالوا‏:‏ كم فيها من مثاقيل الذر‏.‏

باب مَنْ ضَرَبَ دَابَّةَ غَيْرِهِ فِى الْغَزْوِ

وفيه‏:‏ جَابِر، سَافَرْتُ مَعَ الرسول صلى الله عليه وسلم فِى غَزْوَةً أَوْ عُمْرَةً، فَلَمَا أَقْبَلْنَا، قَالَ الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَعَجَّلَ، إِلَى أَهْلِهِ فَلْيُعَجِّلْ‏)‏، فَأَقْبَلْنَا وَأَنَا عَلَى جَمَلٍ لِى أَرْمَكَ، لَيْسَ فِيهِ شِيَةٌ، وَالنَّاسُ خَلْفِى، فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذْ قَامَ عَلَىَّ، فَقَالَ لِى الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَا جَابِرُ، اسْتَمْسِكْ‏)‏، فَضَرَبَهُ بِسَوْطِهِ ضَرْبَةً، فَوَثَبَ الْبَعِيرُ مَكَانَهُ، فَقَالَ لِى‏:‏ أَتَبِيعُ الْجَمَلَ‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ ‏(‏نَعَمْ‏)‏، الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه المعونة فى الجهاد بسوق الدابة وقودها، وقد رأى الرسول رجلا يحط رحل رجل ضعيف، فقال‏:‏ ذهب هذا بالأجر يعنى‏:‏ المعين فكذلك المعين فى سوق الدابة يؤجر على ذلك وفيه دليل على جواز إيلام الحيوان، والحمل عليها بعض ما يشق بها؛ لأنه جاء فى بعض الحديث أنه كان أعيا، فإذا ضرب المعين فقد كلف ما يشق عليه، وإذا صح هذا فكذلك يجوز أن يكلف العبد والأمة بعض ما يشق عليهما إذا كان فى طاقتهما ووسعهما، ويؤدبا على تقصيرهما فيما يلزمهما من الخدمة‏.‏

وفيه أن السلطان قد يتناول الضرب بيده؛ لأنه إذا ضرب الدابة فأحرى أن يضرب الإنسان الذى يعقل؛ تأديبًا له‏.‏

وفيه‏:‏ بركة الرسول؛ لأنه ضربه، فأحدث الله له بضربه قوة وأذهب عنه الإعياء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أرمك‏)‏ قال أبو عبيد عن الأصمعى‏:‏ إذا خالطت حمرته سواد فتلك الرمكة، وبعير أرمك‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ الرمكة لون فى ورقة وسواد، والورقة شبه بالغرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ليس فيه شية‏)‏ أى‏:‏ ليس لمعة من غير لونه، قال صاحب العين‏:‏ الشية‏:‏ لمعة من سواد أو بياض‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إذ قام على الجمل‏)‏ معناه‏:‏ وقف من الإعياء والكلال، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا‏}‏‏.‏

قال أهل التفسير‏:‏ معناه‏:‏ وقفوا‏.‏

وفيه تفسير آخر، قال أبو زيد‏:‏ يقال‏:‏ قام بى ظهرى، أى‏:‏ أوجعنى ما أوجعك من جسدك فقد قام بك، والمعنى متقارب‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ اختلفوا فى المكترى يضرب الدابة فتموت‏.‏

فقال مالك‏:‏ إذا ضربها ضربًا لا يضرب مثله أو حيث لا يضرب ضمن، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور قالوا‏:‏ إذا ضربها ضربًا يضرب صاحبها مثله ولم يتعد فليس عليه شيء‏.‏

واستحسن هذا القول أبو يوسف ومحمد‏.‏

وقال الثورى وأبو حنيفة‏:‏ هو ضامن إلا أن يكون أمره أن يضرب والقول الأول أولى‏.‏

وعليه يدل الحديث؛ لأن النبى لم يضرب الجمل إلا بما يشبه أن يكون أدبًا، له مثله، ولم يتعد عليه فكان ذلك مباحًا، فلو مات الجمل من ذلك لم يضمنه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن متعديًا، والضمان فى الشريعة إنما يلزم المتعدي‏.‏

باب‏:‏ الْفُحُولَةِ مِنَ الْخَيْلِ

وَقَالَ رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ‏:‏ كَانَ السَّلَفُ يَسْتَحِبُّونَ الْفُحُولَةَ؛ لأنَّهَا أَجْرَأ وَأَجْسَرُ‏.‏

فيه‏:‏ أَنَس، كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَزَعٌ، فَاسْتَعَارَ الرسول صلى الله عليه وسلم فَرَسًا لأبِى طَلْحَةَ، يُقَالُ لَهُ‏:‏ مَنْدُوبٌ، فَرَكِبَهُ، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا رَأَيْنَا مِنْ فَزَعٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا‏)‏‏.‏

لا فقه فى هذا الباب، وإنما فيه أن فحول الخيل أفضل للركوب من الإناث لشدتها وجرأتها، ومعلوم أن المدينة لم تخل من إناث الخيل، ولم ينقل أن النبى صلى الله عليه وسلم ولا جملة أصحابه ركبوا غير الفحول، ولم يكن ذلك إلا لفضلها على الإناث، إلا ما ذكر عن سعد بن أبى وقاص أنه كان له فرس أنثى بلقاء‏.‏

باب سِهَامِ الْفَرَسِ

وَقَالَ مَالِكٌ‏:‏ يُسْهَمُ لِلْخَيْلِ وَالْبَرَاذِينِ مِنْهَا، لِقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا ‏(‏وَلا يُسْهَمُ لأكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ‏.‏

وفيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا‏.‏

قال الله تعالى-‏:‏ ‏(‏وما آتاكم الرسول فخذوه ‏(‏فقسم رسول الله للفارس ثلاثة أسهم‏:‏ سهمًا له، وسهمين لفرسه، وفرض علينا اتباعه وطاعته‏.‏

وجاء عن عمر بن الخطاب ‏(‏أنه فرض للفرس سهمين ولصاحبه سهمًا‏)‏ وعن على بن أبى طالب مثله، ولا مخالف لهما فى الصحابة، وهو قول عامة العلماء فى القديم والحديث غير أبى حنيفة؛ فإنه خالف السنة وجماعة الناس فقال‏:‏ لا يسهم للفرس إلا سهم واحد‏.‏

وقال‏:‏ أكره أن أفضل البهيمة على مسلم‏.‏

وخالفه أصحابه، فبقى منفردًا شاذا‏.‏

واختلفوا فى الإسهام للبراذين والهجن فقال مالك‏:‏ إنها من الخيل يسهم لها‏.‏

وبه قال أبو حنيفة والثورى والشافعى وأبو ثور‏.‏

وقال الليث‏:‏ للهجين والبرذون سهم دون سهم الفرس، ولا يلحقان بالعراب‏.‏

وروى عن مكحول أنه قال‏:‏ أول من أسهم للبراذين خالد بن الوليد قسم لها نصف سهمان الخيل‏.‏

وبه قال أحمد بن حنبل‏.‏

وقال مكحول‏:‏ لا شيء للبراذين‏.‏

وبه قال الأوزاعى، واحتج مالك فى الموطأ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والخيل والبغال والحمير لتركبوها ‏(‏واسم الخيل يقع على الهجن والبراذين وهى تغنى غناءها فى كثير من المواضع، فمن زعم أن بينهما فرقًا فعليه الدليل‏.‏

واحتج مالك أيضًا بقول سعيد بن المسيب انه سئل‏:‏ هل فى البراذين صدقة‏؟‏ قال‏:‏ وهل فى الخيل صدقة‏؟‏ واختلفوا فيمن له أفراس كثيرة، فقال مالك‏:‏ لا يسهم إلا لفرس واحد وهوالذى يقاتل عليه‏.‏

وهو قول أبى حنيفة ومحمد والشافعي‏.‏

وقال الثورى والأوزاعى وأبو يوسف والليث وأحمد وإسحاق‏:‏ يسهم لفرسين‏.‏

وحجة القول أنهم أجمعوا على أن سهم فرس واحد يجب مع ثبوت الخبر بذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم فثبت القول به إذ هو سنة وإجماع، ووجب التوقيف عن القول بأكثر من ذلك إذ لا حجة مع القائلين به‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى قسمته صلى الله عليه وسلم للفرس سهمين حض على اكتساب الخيل واتخاذها؛ لما جعل الله فيها من البركة فى اعتلاء كلمته وإعزاز حزبه ولتعظم شوكة المسلمين بالخيل الكثيرة، والله أعلم‏.‏

باب مَنْ قَادَ دَابَّةَ غَيْرِهِ فِى الْحَرْبِ

فيه‏:‏ الْبَرَاء، قيل له‏:‏ أَفَرَرْتُمْ عَنْ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفِرَّ، إِنَّ هَوَازِنَ كَانُوا قَوْمًا رُمَاةً وَإِنَّا لَمَّا لَقِينَاهُمْ حَمَلْنَا عَلَيْهِمْ فَانْهَزَمُوا، فَأَقْبَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْغَنَائِمِ، وَاسْتَقْبَلُونَا بِالسِّهَامِ، فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَفِرَّ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَإِنَّهُ لَعَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، وَإِنَّ أَبَا سُفْيَانَ آخِذٌ بِلِجَامِهَا، وَالنَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ أَنَا النَّبِىُّ لا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِالْمُطَّلِبْ قال المهلب‏:‏ فيه خدمة السلطان فى الحرب وسياسة دابته لأشراف الناس من قرابته وغيرهم‏.‏

وفيه جواز الأخذ بالشدة والتعرض إلى الهلكة فى سبيل الله؛ لأن الناس فروا عن رسول الله ولم يبق إلا مع اثنى عشر رجلا، والمشركون فى أضعافهم عددًا مرارًا كثيرة، فلزموا مكانهم ومصافهم، ولم يأخذوا بالرخصة من الفرار‏.‏

وفيه ركوب البغال فى الحرب للإمام ليكون أثبت له ولئلا يظن به الاستعداد للفرار والتولية، ومن باب السياسة لنفوس الأتباع؛ لأنه إذا ثبت ثبت أتباعه، وإذا رئى منه العزم على الثبات عزم معه عليه‏.‏

وفيه جواز الفخر والندابة عند القتال‏.‏

وفيه إثبات النبوة؛ لأنه قال‏:‏ أنا النبى لا كذب‏.‏

أى‏:‏ ليس أنا بكاذب فيما أقول؛ فيجوز علىّ الانهزام، وإنما ينهزم من ليس على يقين من النصرة وهو على خوف من الموت، والنبى صلى الله عليه وسلم على يقين من النصر بما أوحى الله إليه فى كتابه وأعلمه أنه لا بد له من كمال هذا الأمر، فمن زعم بعد هذا أن الرسول ينهزم فقد رماه بأنه كذب وحى الله أن الله يعصمه من الناس فارتاب وإلا قتل؛ لأنه كافر إن لم يتأول ويعذر بتأويله، وسأشبع القول فى معنى هذا الحديث فى باب من صف أصحابه عند الهزيمة ونزل عن دابته واستنصر بعد هذا إن شاء الله‏.‏

باب الرِّكَابِ وَالْغَرْزِ للدَّابَّةِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَهُ فِى الْغَرْزِ وَاسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ أَهَلَّ مِنْ عِنْدِ مَسْجِدِ ذِى الْحُلَيْفَةِ‏.‏

الغرز للرحل مثل ركاب سرج الدابة يستعين به الراكب عند ركوبه ويعتمد عليه، وهو شيء قديم معروف عندهم، وهذا تفسير ما جاء عن عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ ‏(‏اقطعوا الركب وثبوا على الخيل وثبًا‏)‏ أنه لم يرد بذلك منع اتخاذ الركب أصلاً، وإنما أراد بذلك تمرينهم وتدريبهم على ركوب الخيل حتى يسهل عليهم ذلك من غير استعانة بالركب البتة؛ لأن الرسول اتخذها واستعان بها فى ركوبه‏.‏

باب رُكُوبِ الْفَرَسِ الْعُرْىِ

فيه‏:‏ أَنَس، اسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَرَسٍ عُرْىٍ، مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ، وَفِى عُنُقِهِ سَيْفٌ‏.‏

ركوب الفرس العرى من باب التواضع، وفيه رياضة وتدرب للفروسية، ولا يفعله إلا من أحكم الركوب، فقه ذلك أنه يجب على الفارس أن يتعاهد صنعته ويروض طباعه عليها لئلا يثقل إذا احتاج إلى نفسه عند الشدائد، وفيه تعليق السيف فى العنق‏.‏

باب الْفَرَسِ الْقَطُوفِ

- فيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ فَرَسًا لأبِى طَلْحَةَ كَانَ يَقْطِفُ، فَلَمَّا رَجَعَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏وَجَدْنَا بَحْرًا، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ لا يُجَارَى‏)‏‏.‏

يقال‏:‏ قطفت الدابة‏:‏ أبطأت السير مع تقارب الخطو فهى قطوف‏.‏

وفيه أن الإمام لا بأس أن يركب دون الدواب ليروضها ويؤدبها حتى تمرن على دابته، وذلك من التواضع‏.‏

وفيه بركة النبى؛ لأن ركوبه الفرس أزال عنه اسم البطء والقطاف، وصار لا يجارى بعد ذلك لشدة سرعته، فهذه من علامات النبوة‏.‏

باب السَّبْقِ بَيْنَ الْخَيْلِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَجْرَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم مَا ضُمِّرَ مِنَ الْخَيْلِ مِنَ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَأَجْرَى مَا لَمْ يُضَمَّرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِى زُرَيْقٍ، وَكُنْتُ فِيمَنْ أَجْرَى‏.‏

قَالَ سُفْيَانُ‏:‏ بَيْنَ الْحَفْيَاءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ خَمْسَةُ أَمْيَالٍ أَوْ سِتَّةٌ، وَبَيْنَ الثَنِيَّةَ إِلَى مَسْجِدِ بَنِى زُرَيْقٍ مِيلٌ‏.‏

وترجم له باب‏:‏ ‏(‏غاية السبق للخيل المضمرة‏)‏‏.‏

وقال ابن عقبة‏:‏ ستة أميال أو سبعة‏.‏

قال المؤلف‏:‏ جعل بعض الناس المسابقة بين الخيل سنة، وجعلها بعضهم إباحة، والإضمار للخيل أن يدخل الفرس فى البيت يجلل عليه بجل ليكثر عرقه وينتقص من علفه لينقص لحمه فيكون أقوى على الجري‏.‏

وفيه جواز المسابقة بين الخيل وذلك ممن خص وخرج من باب القمار بالسنة، وكذلك هو خارج من تعذيب البهائم؛ لأن الحاجة إليها تدعو إلى تأديبها وتدريبها‏.‏

وفيه تجويع البهائم على وجه الصلاح عند الحاجة إلى ذلك‏.‏

وفيه أن المسابقة بين الخيل يجب أن يكون أمرها معلومًا، وأن تكون الخيل متساوية الأحوال أو متقاربة، وألا يسابق المضمر مع غير المضمر، وهذا إجماع من العلماء؛ لأن صبر الفرس المضمر المجوع فى الجرى أكثر من صبر المعلوف فلذلك جعلت غاية المضمرة ستة أميال أو سبعة، وجعلت غاية المعلوفة ميلا واحدًا‏.‏

واختلف العلماء فى صفة المسابقة، فقال سعيد بن المسيب‏:‏ ليس برهان بأس إذا أدخل فيها محلل لا يأمنان أن تسبق؛ فإن سبق أخذ السبق وإن سبق لم يكن عليه شيء‏.‏

وبهذا قال الزهرى والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحاق قالوا‏:‏ إذا دخل فرس بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار لا يجوز‏.‏

وقال مالك‏:‏ ليس عليه العمل‏.‏

وفسر العلماء قول سعيد أن معنى دخول المحلل بينهم للخروج عن معنى القمار المحرم فيجعل عنده كل واحد من المتراهنين سيفًا، فمن سبق منهما أخذ السيفين جميعًا، وكذلك إن سبق المحلل أخذهما وإن سبق لم يؤخذ منه شيء، ولا يقول مالك بالسبق، فالمحلل إنما يجوز عنده أن يجعل الرجل سيفه ولا يرجع إليه بكل حال كسبق الإمام، فمن سبق كان له وإن أجرى جاعل السبق معهم فسبق هو كان للمصلى وهو الذى يليه إن كانت خيلا كثير، وإن كانا فرسين فسبق جاعل السبق فهو طعمة لمن حضر، وإن سبق الآخر أخذه، وهو قول ربيعة وابن القاسم‏.‏

وروى ابن وهب عن مالك أنه أجاز أن يشترط واضع السبق إن سبق أخذ السبق، وإم سبق هذا أخذ سبقه وبه أخذ أصبغ وابن وهب‏.‏

قال ابن المواز‏:‏ وكراهة مالك المحلل إنما هو على قوله‏:‏ إنه يجب إخراج السبق بكل حال، وهو قول ابن المسيب وابن شهاب‏.‏

وقال أبو حنيفة والثورى والشافعى‏:‏ الأسباق على ملك أربابها وهم فيها على شروطهم، ولا يجوز أن يملك السبق إلا بالشرط المشروط فيه وإن لم يكن ذلك انصرف السبق إلى من جعله‏.‏

وقال محمد بن الحسن وأصحابه‏:‏ إذا جعل السبق واحد فقال‏:‏ إن تسبقنى فلك كذا، ولم يقل‏:‏ إن سبقتك فعليك كذا، فلا بأس به، ويكره أن يقول‏:‏ إن سبقتك فعليك كذا، وإن سبقتنى فعلى كذا، هذا لا خير فيه‏.‏

وإن قال رجل غيرهما‏:‏ أيكما سبق فله كذا‏.‏

فلا بأس به، وإن كان بينهما محلل إن سبق لم يغرم، وإن سبق أخذ فلا بأس به، وذلك إذا كان يسبق ويسبق‏.‏

قالوا‏:‏ وما عدا هذه الأشياء فهو قمار‏.‏

باب إِضْمَارِ الْخَيْلِ لِلسَّبْقِ

فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِى لَمْ تُضَمَّرْ، وَكَانَ أَمَدُهَا مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِى زُرَيْقٍ، وَأَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ سَابَقَ بِهَا‏.‏

إن قال قائل‏:‏ كيف ترجم البخارى باب ‏(‏إضمار الخيل للسبق‏)‏ وذكر أن الرسول سابق بين الخيل التى لم تضمر‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه إنما أشار بطرف من الحديث إلى بقيته وأحال على سائره؛ لأن تمام الحديث ‏(‏أن الرسول سابق بين الخيل التى ضمرت وبين الخيل التى لم تضمر‏)‏ وذلك موجود فى حديث واحد، فلا حرج عليه فى ثبوته‏.‏

باب نَاقَةِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم

الْقَصْوَاءُ، وَالْعَضْبَاءُ‏.‏

قَالَ ابْنُ عُمَرَ‏:‏ أَرْدَفَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم أُسَامَةَ عَلَى الْقَصْوَاءِ‏.‏

وقال الْمِسْوَرُ‏:‏ قَالَ الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا خَلأتِ الْقَصْوَاءُ‏)‏‏.‏

فيه‏:‏ البراء، كَانَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم نَاقَةٌ يُقال لها‏:‏ الْعَضْبَاءَ، لا تُسْبَقُ- أَوْ لا تَكَادُ تُسْبَقُ- فَجَاءَ أَعْرَابِىٌّ عَلَى قَعُودٍ فَسَبَقَهَا، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتَّى عَرَفَهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لا يَرْفَعَ شَىْءٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلا وَضَعَهُ‏)‏‏.‏

فيه اتخاذ الأمراء والأئمة الإبل للركوب، وفيه جواز الارتداف للعلماء والصالحين، وفيه التزهيد فى الدنيا والتقليل ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ لإخباره أن كل شيء يرتفع من الدنيا يحق على الله أن يضعه وبهذا نطق القرآن، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل متاع الدنيا قليل ‏(‏وما وصفه أنه قليل فقد وضعه وصغره، وقال تعالى تسلية عن متاع الدنيا‏:‏ ‏(‏والآخرة خير لمن اتقى ‏(‏وقال‏:‏ ‏(‏وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ‏(‏إرشادًا لعباده وتنبيهًا لهم على طلب الأفضل‏.‏

والقصواء من النوق التى فى أذنها حذف، يقال منه‏:‏ ناقة قصواء وبعير مقصو ولا يقال‏:‏ بعير أقصى‏.‏

وذكر الأصمعى فى الناقة أنه يقال منها‏:‏ قصوة‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ ناقة عضباء مشقوقة الأذن، وشاه عضباء مكسورة القرن، وقد عضبت عضبًا، والعضب‏:‏ القطع، ومنه قيل للسيف القاطع‏:‏ عضب، وقد عضب يعضب إذا قطع‏.‏

والقعود‏:‏ الجمل المسن‏.‏

باب بَغْلَةِ النَّبِىِّ، صلى الله عليه وسلم

الْبَيْضَاءِ وَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ‏:‏ أَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم بَغْلَةً بَيْضَاءَ‏.‏

فيه‏:‏ عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ، مَا تَرَكَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِلا بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ وَسِلاحَهُ وَأَرْضًا تَرَكَهَا صَدَقَةً‏.‏

وفيه‏:‏ الْبَرَاءِ، مَا وَلَّى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنْ وَلَّى سَرَعَانُ النَّاسِ، وَالنَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

وفيه جواز ركوب الأمراء والعلماء البغال والدواب، وأن ذلك من المباح وليس من السرف؛ لأن الإمام يلزمه التصرف والتعاهد لأمور رعيته والجهاد بنفسه والنظر فى مصالح المسلمين، وكذلك له أن يتخذ السلاح وكل ما به إليه حاجة من الآلات والقوت لأهله من الخمس‏.‏

باب جِهَادِ المرأة

فيه‏:‏ عَائِشَةَ، اسْتَأْذَنْتُ النَّبِىَّ؛ صلى الله عليه وسلم، فِى الْجِهَادِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ‏)‏‏.‏

وقال مرة‏:‏ ‏(‏نِعْمَ الْجِهَادُ الْحَجُّ‏)‏‏.‏

هذا الحديث يدل على أن النساء لا جهاد عليهن واجب، وأنهن غير داخلات فى قوله‏:‏ ‏(‏انفروا خفافًا وثقالا ‏(‏وهذا إجماع من العلماء وليس فى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏جهادكن الحج‏)‏ دليل أنه ليس لهن أن يتطوعن بالجهاد وإنما فيه أنه الأفضل لهن، وإنما كان الحج أفضل لهن من الجهاد؛ لأنهن لسن من أهل القتال للعدو ولا قدرة لهن عليه ولا قيام به، وليس للمرأة أفضل من الاستتار وترك المباشرة للرجال بغير قتال، فكيف فى حال القتال التى هى أصعب‏؟‏ والحج يمكنهن فيه مجانبة الرجال والاستتار عنهم؛ فلذلك كان أفضل لهن من الجهاد، والله أعلم‏.‏

باب غَزْوِ النساء فِى الْبَحْرِ

فيه‏:‏ أَنَس، دَخَلَ الرسول صلى الله عليه وسلم عَلَى ابْنَةِ مِلْحَانَ، فَاتَّكَأَ عِنْدَهَا، ثُمَّ ضَحِكَ، فَقَالَ‏:‏ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِى عرضوا علىّ يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ الأخْضَرَ فَقَالَتْ‏:‏ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِى مِنْهُمْ، فركبت‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

فيه جواز جهاد النساء فى البحر، وقد تقدم القول فى هذا الحديث فى غير موضع‏.‏

باب حَمْلِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فِى الْغَزْوِ دُونَ بَعْضِ نِسَائِهِ

فيه‏:‏ عَائِشَةَ، كَانَ الرسول صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ سفرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِى غَزْوَةٍ غَزَاهَا، فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِى، فَخَرَجْتُ مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَا نزِلَ الْحِجَابُ‏.‏

هذه الترجمة لا تصح إلا بذكر القرعة فيها؛ لأن العدل بين النساء فريضة، فلو خرج بواحدة من أزواجه دون قرعة لم يكن ذلك عدلا بينهن وكان ميلا، فكانت القرعة فضلا فى ذلك يرجع إليه كما يحكم بالقرعة فى كثير مما يشكل أمره من أمور الشريعة‏.‏

باب غَزْوِ النِّسَاءِ وَقِتَالِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ

فيه‏:‏ أَنَس، لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ، وَأُمَّ سُلَيْمٍ، وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تَنْقُزَانِ، وَقَالَ غَيْرُهُ‏:‏ تَنْقُلانِ الْقِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا، ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ فِى أَفْوَاهِ الْقَوْمِ‏.‏

قد تقدم أن النساء لا غزو عليهن، وإنما غزوهن تطوع وفضيلة وعونهن للغزاة بسقى، وسقيهن وتشميرهن هو ضرب من القتال؛ لأن العون على الشيء ضرب منه، وقد روى عن أم سليم أنها كانت تسبق الشجعان فى الجهاد، وثبتت يوم حنين والأقدام قد زلت، والصفوف قد انتقضت والمنايا قد فغرت، والتفت إليها النبى صلى الله عليه وسلم وفى يدها خنجر فقالت‏:‏ يا رسول الله، اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل هؤلاء الذين يحاربونك، ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ بشر منهم‏)‏ وروى معمر، عن الزهرى قال‏:‏ كان النساء يشهدن المشاهد مع رسول الله ويسقين المقاتلة ويداوين الجراح، ولم أسمع بامرأة قاتلت معه، وقد قاتل نساء من قريش يوم اليرموك حتى دهمتهم جموع الروم وخالطوا عسكر المسلمين فضربت النساء يومئذ بالسيوف، وذلك فى خلافة عمر‏.‏

واختلفوا فى المرأة يسهم لها، فقال الأوزاعى‏:‏ يسهم للنساء وقد أسهم رسول الله بحنين وأخذ المسلمون بذلك‏.‏

وقال الثورى والكوفيون والليث والشافعى‏:‏ لا يسهم للنساء ولكن يرضخ لهن، واحتجوا بكتاب ابن عباس إلى نجدة أن النساء كن يحضرن فيداوين من المرضى ويحذين من الغنيمة فى الغزو، قال‏:‏ ما سمعت ذلك‏.‏

وقول مالك أصح؛ لأن النساء لا جهاد عليهن وإنما يجب السهم والرضخ لمن كان مقاتلا أورد إليهم، و ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ النساء لا غناء لهن ولا نكاية للعدو فيهن، فأما إذا قاتلت امرأة وكان لها غناء وعون فلو أسهم لها لكان صوابا؛ لأن السهم إنما جعله الله لأهل الجيش بقتالهم العدو ودفعهم عن المسلمين فمن وجدت هذه الصفة فيه فهو مستحق للسهم، سواء كان رجلا أو امرأة، وإنما خرج جوابا للعالم فى هذه المسألة على أنه لا سهم للنساء للغالب من حالهن، فإن من يقاتل فيهن لا يكاد يوجد، والله أعلم‏.‏

قال صاحب العين‏:‏ الخدم سير كالحلقة يشد فى رسغ البعير، ثم تشتد إليه سرائح نعلها، والمخدم‏:‏ موضع ذلك السير، والخدمة‏:‏ الخلخال‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ الخدام الخلاخيل واحدها‏:‏ خدمة، وفى كتاب العين‏:‏ النقز والنقزان‏:‏ الوثبان، والنواقز‏:‏ القوائم‏.‏

باب حَمْلِ النِّسَاءِ الْقِرَبَ إِلَى النَّاسِ فِى الْغَزْوِ

- وفيه‏:‏ ثَعْلَبَةُ بْنُ أَبِى مَالِكٍ، أَنَّ عُمَرَ قَسَمَ مُرُوطًا بَيْنَ نِسَاءٍ فِى الْمَدِينَةِ، فَبَقِىَ مِرْطٌ جَيِّدٌ، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ عِنْدَهُ‏:‏ أَعْطِه ابْنَةَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم الَّتِى عِنْدَكَ- يُرِيدُونَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِىٍّ- فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ أُمُّ سَلِيطٍ أَحَقُّ- امرأة مِنْ نِسَاءِ الأنْصَارِ مِمَّنْ بَايَعَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم- فكَانَتْ تَزْفِرُ لَنَا الْقِرَبَ يَوْمَ أُحُدٍ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه دليل على أن الأولى بالنبى من أتباعه أهل السابقة إليه والنصرة له، لا يستحق أحد ولايته ببنوة ولا بقرابة إذا لم يقارنها الإسلام، ثم إذا قارنها الإسلام تفاضل أهله بالسابقة والنصرة من المعونة بالمال والنفس، ألا ترى أن عمر جعل أم سليط أحق بالقسمة لها من المروط من حفيدة رسول الله بالبنوة لتقدم أم سليط بالإسلام والنصرة والتأييد وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ‏(‏وكذلك يجب أن لا تستحق الخلافة بعده ببنوة ولا بقرابة، وإنما تستحق بما ذكره الله من السابقة والإنفاق والمقاتلة‏.‏

وفيه الإشارة بالرأى على الإمام، وإنما ذلك للوزير والكاتب وأهل الصحبة والبطانة له، ليس ذلك لغيرهم، إلا أن يكون من أهل العلم والبروز فى الإمامة فله الإشارة على الإمام وغيره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏تزفر لنا القرب‏)‏ يعنى‏:‏ تحمل، قال صاحب العين والأفعال‏:‏ زفر بالحمل زفرًا‏:‏ نهض به، والزفر‏:‏ القربة، والزوافر‏:‏ الإماء يحملن القرب‏.‏

باب مُدَاوَاةِ النِّسَاءِ الْجَرْحَى فِى الْغَزْوِ

فيه‏:‏ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ، كُنَّا مَعَ الرسول صلى الله عليه وسلم نَسْقِى، وَنُدَاوِى، الْجَرْحَى وَنَرُدُّ الْقَتْلَى إِلَى الْمَدِينَةِ‏.‏

وترجم له باب‏:‏ ‏(‏رد النساء القتلى‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه مباشرة المرأة غير ذى محرم منها فى المداواة وما شاكلها من إلطاف المرضى ونقل الموتى‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف جاز أن يباشر النساء الجرحى وهم غير ذوى محارم منهن‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه يجوز ذلك للمتجالات منهن؛ لأن موضع الجرح لا يلتذ بلمسه، بل تقشعر منه الجلود، وتهابه النفوس، ولمسه عذاب للامس والملموس، وأما غير المتجالات منهن فيعالجن الجرحى بغير مباشرة منهن لهم، بأن يصنعن الدواء ويضعه غيرهن على الجرح، ولا يمسسن شيئًا من جسده‏.‏

قال غيره‏:‏ والدليل على صحة هذا التأويل أنى لم أجد أحدًا من سلف العلماء يقول فى المرأة تموت مع الرجال أو الرجل يموت مع النساء غير ذوى المحارم لا يحضر ذلك غيرهم أن أحدًا منهما يغسل صاحبه دون حائل وثوب يستره‏.‏

وقال الحسن البصرى‏:‏ يصب عليها من فوق الثياب وهو قول النخعى وقتادة والزهرى وبه قال إسحاق‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ تيمم بالصعيد، روى ذلك عن سعيد بن المسيب والنخعى أيضًا، وبه قال مالك والكوفيون وأحمد، وقال الأوزاعى‏:‏ تدفن كما هى ولا تيمم‏.‏

وهذا يدل من قولهم أنه لا يجوز عندهم مباشرة غير ذوى المحارم؛ لأن حالة الموت أبعد من التسبب إلى دواعى اللذة والذريعة إليها من حال الحياة، فلما اتفقوا أنه لا يجوز للأجنبى غسل الأجنبية الميتة مباشرًا لها دون ثوب يسترها، دل بأن مباشرة الأحياء الأحس أولى بأن لا يجوز، والله أعلم‏.‏

باب نَزْعِ السَّهْمِ مِنَ الْبَدَنِ

- فيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، رُمِىَ أَبُو عَامِرٍ فِى رُكْبَتِهِ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ انْزِعْ هَذَا السَّهْمَ، فَنَزَعْتُهُ، فَنَزَا مِنْهُ الْمَاءُ، فَدَخَلْتُ عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ‏:‏ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِى عَامِرٍ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه جواز نزع السهام من البدن وإن خشى بنزعها الموت، وكذلك البط والكى وما شاكله، يجوز للمرء أن يفعله رجاء الانتفاع بذلك، وإن كان فى غبها خشية الموت، وليس من صنع ذلك بملق نفسه للتهلكة؛ لأنه بين الخوف والرجاء‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللهم اغفر لعبيد أبى عامر‏)‏ إنما دعا له؛ لأنه علم أنه ميت من ذلك السهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏نزا منه الماء‏)‏‏.‏

قال صاحب العين‏:‏ نزا ينزو نزوًا ونزوانًا وينزى‏:‏ إذا وثب‏.‏

وقال أبو زيد‏:‏ النزاء و النفار داء يأخذ النساء فتنزوا منه وتنفر حتى تموت، وسيأتى زيادة فى شرح هذه الكلمة بعد هذا إن شاء‏.‏

باب الْحِرَاسَةِ فِى الْغَزْوِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ

فيه‏:‏ عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم سَهِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏لَيْتَ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِى صَالِحًا يَحْرُسُنِى اللَّيْلَةَ‏)‏؛ إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ سِلاحٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ هَذَا‏)‏‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ أَنَا سَعْدُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ، جِئْتُ لأحْرُسَكَ، وَنَامَ النَّبِىُّ، صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمِ، وَالْقَطِيفَةِ، وَالْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِىَ رَضِىَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِى الْحِرَاسَةِ كَانَ فِى الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِى السَّاقَةِ، كَانَ فِى السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه التزام السلطان للحذر والخوف على نفسه فى الحضر والسفر؛ ألا ترى فعل الرسول مع ما عرفه الله أنه سيكمل به دينه، ويعلى به كلمته، التزم الحذر خوف فتك الفاتك، وأذى المؤذى بالعداوة فى الدين، والحسد فى الدنيا‏.‏

وفيه أن على الناس أن يحرسوا سلطانهم ويتخفوا به خشية الفتك وانخرام الأمر‏.‏

وفيه أنه من تبرع بشىء من الخير أنه يسمى صالحًا؛ لقوله‏:‏ ‏(‏ليت رجلا صالحًا‏)‏ أى‏:‏ ‏(‏يبعثه‏)‏ صالحة على حراسة سلطانه فكيف بنبيه‏؟‏‏.‏

وفيه دليل أن هذا كان قبل أن ينزل عليه‏:‏ ‏(‏والله يعصمك من الناس ‏(‏وقَبل لأن ينزل عليه‏:‏ ‏(‏إنا كفيناك المستهزئين ‏(‏لأنه قد جاء فى الحديث أنه لما نزلت هذه الآية ترك الاحتراس بالليل‏.‏

وفيه أنه متى سمع الإنسان حس سلاح بالليل أن يقول‏:‏ من هذا‏؟‏ ويعلم أنه ساهر لئلا يطمع فيه أهل الطلب للغرة والغفلة؛ فإذا علم أنه مستيقظ ردعهم بذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏تعس عبد الدينار والدرهم‏)‏ يعنى‏:‏ إن طلب ذلك، وقد استعبده وصار عمله كله فى طلب الدينار والدرهم كالعبادة لهما‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إن أعطى رضي‏)‏ أى‏:‏ وإن أعطى ما له عمل رضى عن معطيه وهو خالقه عز وجل، وإن لم يعط سخط ما قدر له خالقه ويسر له من رزقه، فصح بهذا أنه عبد فى طلب هذين، فوجب الدعاء عليه بالتعس؛ لأنه أوقف عمله على متاع الدنيا الفانى وترك العمل لنعيم الآخرة الباقي‏.‏

والتعس‏:‏ ألا ينتعش ولا يفيق من عثرته، وانتكس أى‏:‏ عاوده المرض كما بدأه، هذا قول الخليل‏.‏

وقال ابن الأنبارى‏:‏ التعس‏:‏ الشر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فتعسًا لهم ‏(‏أراد ألزمهم الله الشر‏.‏

هذا قول المبرد‏.‏

وقال غيره‏:‏ التعس‏:‏ البعد‏.‏

وقال الرستمى‏:‏ التعس أن يخر على وجهه، والنكس أن يخر على رأسه، قال‏:‏ والتعس أيضًا‏:‏ الهلاك‏.‏

ثم أكد الدعاء عليه بقوله‏:‏ ‏(‏وإذا شيك فلا انتقش‏)‏ أى‏:‏ إذا أصابته شوكة فلا أخرجها بمنقاشها، فيمتنع السعى للدينار والدرهم، ثم حض على الجهاد فقال‏:‏ ‏(‏طوبى لعبد ممسك بعنان فرسه‏)‏ إلى آخر الحديث فجمع فى هذا الحديث مدح من العمل‏:‏ خير الدنيا والآخرة لقوله‏:‏ ‏(‏الخيل معقود فى نواصيها الخير‏)‏ الأجر‏:‏ والغنيمة‏:‏ ونعيم الآخرة بقوله‏:‏ ‏(‏إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم‏}‏ الآية‏.‏

وفيه ترك حب الرياسة والشهرة، وفضل الخمول ولزوم التواضع لله بأن يجهل المؤمن فى الدنيا ولا تعرف عينه فيشار إليه بالأصابع، وبهذا أوصى صلى الله عليه وسلم ابن عمر فقال له‏:‏ ‏(‏يا عبد الله، كن فى الدنيا كأنك غريب‏)‏ والغريب مجهول العين فى الأغلب فلا يؤبه لصلاحه فيكرم من أجله ويبجل، فمن لزم هذه الطريقة كان حريًا إن استأذن ألا يؤذن له، وإن شفع ألا يشفع‏.‏

باب فَضْلِ الْخِدْمَةِ فِى الْغَزْوِ

فيه‏:‏ أَنَس، صَحِبْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ، فَكَانَ يَخْدُمُنِى، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ أَنَسٍ، قَالَ جَرِيرٌ‏:‏ إِنِّى رَأَيْتُ الأنْصَارَ يَصْنَعُونَ شَيْئًا بالنَّبِىّ صلى الله عليه وسلم لا أَجِدُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلا أَكْرَمْتُهُ‏.‏

وفيه‏:‏ أَنَس، خَرَجْتُ مَعَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم إِلَى خَيْبَرَ أَخْدُمُهُ، وَقَالَ‏:‏ كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرُنَا ظِلا الَّذِى يَسْتَظِلُّ بِكِسَائِهِ، وَأَمَّا الَّذِينَ صَامُوا فَلَمْ يَعْمَلُوا شَيْئًا، وَأَمَّا الَّذِينَ أَفْطَرُوا فَبَعَثُوا الرِّكَابَ وَامْتَهَنُوا وَعَالَجُوا، فَقَالَ النَّبِىُّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأجْرِ‏)‏‏.‏

قال أبو عبد الله بن أبى صفرة‏:‏ فيه أن أجر الخدمة فى الغزو أعظم من أجر الصيام؛ إذا كان المفطر أقوى على الجهاد وطلب العلم وسائر الأعمال الفاضلة من معونة ضعيف أو حمل ما بالمسلمين إلى حمله حاجة‏.‏

وفيه‏:‏ أن التعاون فى الجهاد والتفاضل فى الخدمة من حل وترحال واجب على جميع المجاهدين‏.‏

وفيه‏:‏ جواز خدمة الكبير للصغير إذا رعى له شرفًا فى قومه أو فى نفسه أو نجابة فى علم أو دين أو شبهه، وأما فى الغزو فالخادم المحتسب أفضل أجرًا من المخدوم الحسيب‏.‏

باب فَضْلِ مَنْ حَمَلَ مَتَاعَ صَاحِبِهِ فِى السَّفَرِ

فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏كُلُّ سُلامَى عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ، يُعِينُ الرَّجُلَ فِى دَابَّتِهِ يُحَامِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَمْشِيهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، وَدَلُّ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ السلامى عظام الأصابع والأكارع، عن صاحب ‏(‏العين‏)‏ وليس ما ذكر فى هذا الحديث أنه صدقة على الإنسان تجب عليه فرضًا، وإنما هو عليه من باب الحض والندب، كما أمر الله تعالى المؤمنين بالتعاون والتناصر وقال‏:‏ ‏(‏وتعاونوا على البر والتقوى ‏(‏وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا‏)‏ ‏(‏والله فى عون العبد ما دام العبد فى عون أخيه‏)‏، فهذه كلها وما شاكلها من حقوق المسلمين بعضهم على بعض مندوب إليها مرغب فيها‏.‏

ذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن يحيى بن أبى كثير، عن رجل ذكره، عن عائشة، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن فى الإنسان ثلاثمائة وستين مفصلا؛ فمن كبر الله وحمد الله وهلل الله عددها فى يوم أمسى وقد زحزح عن النار‏)‏ والمراد بحديث أبى هريرة أن الحامل فى السفر لمتاع غيره إنما معناه أن الدابة للمُعان فيؤجر الرجل على عونه لصاحبها فى ركوبها أو فى رفع متاعه عليها، وقد جاء هذا الحديث بينًا بهذا المعنى بعد هذا، وترجم له‏:‏ ‏(‏من أخذ بالركاب ونحوه‏)‏ وقال فى الحديث‏:‏ ‏(‏ويعين الرجال على دابته فيحمل عليها ويرفع عليها متاعه‏)‏‏.‏

فدل قوله‏:‏ من أخذ بالركاب ونحوه‏.‏

أنه أراد لدابة غيره و إذا أجر من فعل ذلك بدابة غيره أجر إذا حمل على دابة نفسه أكثر، والله الموفق‏.‏

باب فَضْلِ رِبَاطِ يَوْمٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏اصْبِرُوا وَصَابِرُوا‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 200‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ سَهْل، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رِبَاطُ يَوْمٍ فِى سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فيها، وَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فيها‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما صار رباط يوم فى سبيل الله خير من الدنيا وما فيها؛ لأنه عمل يؤدى إلى الجنة، وصار موضع سوط فى الجنة خير من الدنيا وما فيها من أجل أن الدنيا فانية وكل شيء فى الجنة وإن صغر فى التمثيل لنا وليس فيها صغير فهو أدوم وأبقى من الدنيا الفانية المنقطعة فكان الدائم الباقى خيرًا من المنقطع‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اصبروا وصابروا ‏(‏اختلف فيها أهل التأويل فقال زيد‏:‏ اصبروا على الجهاد، وصابروا العدو، ورابطوا الخيل على العدو‏.‏

وعن الحسن وقتادة‏:‏ اصبروا على طاعة الله، وصابروا أعداء الله، ورابطوا فى سبيل الله‏.‏

وعن الحسن أيضًا‏:‏ اصبروا على المصائب، وصابروا على الصلوات الخمس‏.‏

قال محمد بن كعب‏:‏ اصبروا على دينكم، وصابروا لوعدى الذى وعدتكم عليه، ورابطوا عدوى وعدوكم حتى يترك دينه لدينكم، واتقوا الله فيما بينى وبينكم لعلكم تفلحون غدًا إذا لقيتموني‏.‏

وعن أبى سلمة‏:‏ رابطوا على الصلوات أى‏:‏ انتظروها‏.‏

باب مَنْ غَزَا بِصَبِىٍّ لِلْخِدْمَةِ

فيه‏:‏ أَنَس، قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لأبِى طَلْحَةَ‏:‏ ‏(‏الْتَمِسْ لى غُلامًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدُمُنِى حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى خَيْبَرَ‏)‏، فَخَرَجَ بِى أَبُو طَلْحَةَ مُرْدِفِى، وَأَنَا غُلامٌ رَاهَقْتُ الْحُلُمَ، فَكُنْتُ أَخْدُمُ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَزَلَ، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ كَثِيرًا، يَقُولُ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

قال أبو عبد الله‏:‏ فى حديث أنس‏:‏ ‏(‏خرج بى أبو طلحة وأنا غلام راهقت الحلم‏)‏ وفى طريق آخر‏:‏ ‏(‏وأنا ابن عشر سنين‏)‏‏.‏

وكذلك فى حديث ابن عباس‏:‏ ‏(‏ناهزت الحلم‏)‏‏.‏

وفى طريق آخر‏:‏ ‏(‏توفى رسول الله وأنا ابن عشر سنين، وقد حفظت المحكم الذى يدعونه المفصل‏)‏ فسمى أنس وابن عباس ابن عشر سنين مراهقًا‏.‏

وفيه‏:‏ جواز الاستخدام لليتامى بشبعهم وكسوتهم‏.‏

وفيه‏:‏ دليل على جواز الاستخدام بغير نفقة ولا كسوة إذا كان خدمة عالم أو إمام فى الدين؛ لأنه لم يذكر فى حديث أنس أن له أجر الخدمة وإن كان قد يجوز أن تكون نفقته من عند النبى، واما الأجرة فلم يذكرها أنس فى حديثه ولا ذكرها أحد عن النبى ولا عن أبى طلحة ولا عن أم سلمة، وهما اللذان أتيا به إلى الرسول وأسلماه لخدمته ولم يشترطا أجرة ولا نفقة ولا غيرها، فجائز على اليتيم إسلام أمه ووصيه وذى الرأى من أهله فى الصناعات واستئجاره فى المهنة وذلك لازم له ومنعقد عليه، وفيه جواز حمل الصبيان فى الغزو وقوله‏:‏ ‏(‏يحوى لها وراءه‏)‏ فالحوية مركب يهيأ للمرأة، من كتاب العين

باب رُكُوبِ الْبَحْرِ

- فيه‏:‏ أَنَس، حَدَّثَتْنِى أُمُّ حَرَامٍ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم نام يَوْمًا فِى بَيْتِهَا، فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَ‏:‏ ‏(‏عَجِبْتُ مِنْ قَوْمٍ مِنْ أُمَّتِى يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ كَالْمُلُوكِ عَلَى الأسِرَّةِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

فيه جواز ركوب البحر للجهاد وإذا جاز ركوبه للجهاد فهو للحج أجوز وهذا الحديث يرد أحد قولى الشافعى أنه من لم يكن له طريق إلى الحج إلا على البحر سقط عنه فرض الحج، وقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ يلزمه الحج على ما يقتضيه دليل هذا الحديث، إلا أن مالكًا يكره للمرأة الحج فى البحر وهو للجهاد أكره، وإنما كره ذلك؛ لأن المرأة لا تكاد تستتر عن الرجال ولا يستترون عنها، ونظرها إلى عورات الرجال ونظرهم إليها حرام، فلم ير لها استباحة فضيلة ولا أداء فريضة بمواقعة محرم‏.‏

وذكر مالك أن عمر بن الخطاب كان يمنع الناس من ركوب البحر فلم يركبه أحد طول حياته، فلما مات استأذن معاوية عثمان بن عفان فى ركوبه؛ فأذن له فلم يزل يركب حتى كان عمر بن عبد العزيز فمنع من ركوبه، ثم ركب بعده إلى الآن‏.‏

ولا حجة لم منع ركوبه؛ لأن السنة قد أباحت ركوبه فى الجهاد للرجال والنساء فى حديث أنس وغيره وهى الحجة فيها الأسوة، وقد ذكر أبو عبيد أن النبى صلى الله عليه وسلم نهى عن ركوب البحر فى وقت ارتجاجه وصعوبته قال‏:‏ حدثناه عباد بن عباد، عن أبى عمران الجونى، عن زهير بن عبد الله يرفعه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من ركب البحر إذا التج أو قال‏:‏ ارتج فقد برئت منه الذمة أو قال‏:‏ فلا يلومن إلا نفسه‏)‏ قال أبو عبيد‏:‏ وأكبر ظنى أنه قال‏:‏ ‏(‏التج‏)‏ باللام‏.‏

فدل هذا الحديث أن ركوبه مباح فى غير وقت ارتجاجه وصعوبته فى كل شيء فى التجارة وغيرها، وسيأتى فى كتاب البيوع فى ‏(‏باب التجارة فى البحر‏)‏ زيادة فى هذا المعنى إن شاء الله ولم يفسر أيو عبيد قوله‏:‏ ‏(‏برئت منه الذمة‏)‏ ومعناه إن شاء الله-‏:‏ فقد برئت منه ذمة الحفظ؛ لأنه ألقى بيده إلى التهلكة وغرر بنفسه، ولم يرد فقد برئت منه ذمة الإسلام؛ لأنه لا يبرأ أحد من الإسلام إلا بالكفر‏.‏

باب مَنِ اسْتَعَانَ بِالضُّعَفَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِى الْحَرْبِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ أَخْبَرَنِى أَبُو سُفْيَانَ، قَالَ لِى قَيْصَرُ‏:‏ سَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ‏؟‏ فَزَعَمْتَ ضُعَفَاءَهُمْ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ‏.‏

فيه‏:‏ سَعْد، أَنَّهُ رَأَى فَضْلا له عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلا بِضُعَفَائِكُمْ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، قَالَ الرسول، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَأْتِى زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ‏:‏ فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ الرسول صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فَيُقَالُ‏:‏ نَعَمْ، فَيُفْتَحُ عَلَيْهِم، ثُمَّ يَأْتِى زَمَانٌ، فَيُقَالُ‏:‏ فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ أَصْحَابَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فَيُقَالُ‏:‏ نَعَمْ، فَيُفْتَحُ، ثُمَّ يَأْتِى زَمَانٌ، فَيُقَالُ‏:‏ فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ صَاحِبَ أَصْحَابِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فَيُقَالُ‏:‏ نَعَمْ، فَيُفْتَحُ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ذكر النسائى زيادة فى حديث سعد يبين بها معناه فيقال فيه‏:‏ ‏(‏هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بصومهم وصلاتهم ودعائهم‏)‏ وتأويل ذلك أن عبادة الضعفاء ودعاءهم أشد إخلاصًا وأكثر خشوعًا؛ لخلاء قلوبهم من التعلق بزخرف الدنيا وزينتها وصفاء ضمائرهم مما يقطعهم عن الله فجعلوا همهم واحدًا؛ فزكت أعمالهم، وأجيب دعاؤهم قال المهلب‏:‏ إنما أراد صلى الله عليه وسلم بهذا القول لسعد الحض على التواضع ونفى الكبر والزهو عن قلوب المؤمنين‏.‏

ففيه من الفقه أن من زها على ما هو دونه أنه ينبغى أن يبين من فضله ما يحدث له فى نفس المزهو مقدارًا أو فضلا حتى لا يحتقر أحدًا من المسلمين؛ ألا ترى أن الرسول أبان من حال الضعفاء ما ليس لأهل القوة والغناء فأخبر أن بدعائهم وصلاتهم وصومهم ينصرون‏.‏

وذكر عبد الرزاق، عن مكحول أن سعد بن أبى وقاص قال‏:‏ ‏(‏يا رسول الله، أرأيت رجلا يكون حامية القوم ويدفع عن أصحابه ليكون نصيبه كنصيب غيره‏؟‏ فقال النبى صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ثكلتك أمك يا ابن أم سعد، وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم‏)‏‏.‏

فيمكن أن يكون هذا المعنى الذى لم يذكره البخارى فى حديث سعد الذى رأى به الفضل لنفسه على من دونه والله أعلم وحديث أبى سعيد يشهد لصحته، ويوافق معناه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خيركم قرنى ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم‏)‏ لأنه يفتح لهم لفضلهم، ثم يفتح للتابعين لفضلهم، ثم يفتح لتابعيهم لفضلهم، وأوجب الفضل لثلاثة القرون ولم يذكر الرابع ولم يذكر فضلا فالنصر فيهم أقل، والله أعلم‏.‏

وقال صاحب العين‏:‏ الفئام‏:‏ الجماعة من الناس وغيرهم‏.‏

باب لا يقال فُلانٌ شَهِيدٌ

وَقَالَ النَّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُجَاهِدُ فِى سَبِيلِهِ‏)‏‏.‏

فيه‏:‏ سَهْل، الْتَقَى النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُشْرِكُونَ، فَاقْتَتَلُوا، وَفِى أَصْحَابِ الرسول صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ لا يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلا فَاذَّةً إِلا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ، فَقَالَ‏:‏ مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ كَمَا أَجْزَأَ فُلانٌ، فَقَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ‏)‏، فاتبعه رَجُلٌ كُلَّمَا وَقَفَ، وَقَفَ مَعَهُ، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ، قَالَ‏:‏ فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ‏:‏ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ الرسول‏:‏ ‏(‏وَمَا ذَاكَ‏)‏‏؟‏ فأخبره، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى هذا الحديث ضد ما ترجم له البخارى، أنه لا يقال‏:‏ فلان شهيد، ثم أدخل هذا الحديث وليس فيه من معنى الشهادة شيء وإنما فيه ضدها والمعنى الذى ترجم به قولهم‏:‏ ما أجزأ أحد ما أجزأ فلان فمدحوا جزاءه وغناءه، ففهم الرسول منهم أنهم قضوا له بالجنة فى نفوسهم بغناءه ذلك، فأوحى إليه بغيب مآل أمره لئلا يشهدوا لحى بشهادة قاطعة عند الله ولا لميت، كما قال رسول الله فى عثمان بن مظعون‏:‏ ‏(‏والله ما أدرى وأنا رسول الله ما يفعل به‏)‏ وكذلك لا يعلم شيئًا من الوحى حتى يوحى إليه به ويعرف بغيبه، فقال‏:‏ إنه من أهل النار بوحى من الله له‏.‏

وفيه أن صدق الخبر عما يكون وخروجه على ما أخبر به المخبر زيادة فى زكاته وهو من النبى صلى الله عليه وسلم من علامات نبوته وزيادة فى يقين المؤمنين به، ألا ترى قول الرجل حين رأى قتله لنفسه‏:‏ أشهد إنك لرسول الله وهو كان قد شهد قبل ذلك‏.‏

وقد قال أبو بكر الصديق فى غير ما قصة حين كان يرى صدق ما أخبر به النبى كان يقول‏:‏ أشهد أنك رسول الله‏.‏

وفيه جواز الإغياء فى الوصف لقوله‏:‏ ما أجزأ أحدكما أجزأ، ولا يدع لهم شاذة ولا فاذة، ولا شك أن فى أصحاب الرسول من كان فوقه، وأنه قد ترك شاذات وفاذات لم يدركها، وإنما خرج كلامه على الإغياء والمبالغة، وهو جائز عند العرب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إلا اتبعها يضربه بسيفه‏)‏ معناه‏:‏ يضرب الشيء المتبوع؛ لأن المؤنث قد يجوز تذكيره على معنى أنه شيء، وأنشد الفراء للأعرابية‏:‏

تركتنى فى الحى ذا غربة ***

تريد ذات غربة لكنها ذكرت على تقدير‏:‏ تركتنى فى الحى إنسان ذا غربة، أو شخصًا ذا غربة‏.‏

باب التَّحْرِيضِ عَلَى الرَّمْىِ

وَقَوْلِ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 60‏]‏‏.‏

فيه‏:‏ سَلَمَةَ‏:‏ مَرَّ الرسول صلى الله عليه وسلم عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ، فَقَالَ النَّبِىُّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ارْمُوا بَنِى إِسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، ارْمُوا وَأَنَا مَعَ بَنِى فُلانٍ‏)‏، قَالَ‏:‏ فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا لَكُمْ لا تَرْمُونَ‏)‏‏؟‏ قَالُوا‏:‏ كَيْفَ نَرْمِى وَأَنْتَ مَعَهُمْ‏؟‏ قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أَبُو سعيد، قَالَ‏:‏ قَالَ الرسول صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ، حِينَ صَفَفَنَا لِقُرَيْشٍ وَصَفُّوا لَنَا‏:‏ ‏(‏إِذَا أَكْثَبُوكُمْ فَعَلَيْكُمْ بِالنَّبْلِ‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ‏(‏‏:‏ ‏(‏ألا وإن القوة الرمى‏)‏‏.‏

رواه المقرىء، عن سعيد بن أبى أيوب، حدثنا يزيد بن أبى حبيب، عن أبى الخير مرثد بن عبد الله اليزنى، عن عقبة بن عامر، عن النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال المهلب فيه من الفقه‏:‏ أن للسلطان أن يأمر رجاله بتعليم الرمى وسائر وجوه الحرابة ويحض عليها‏.‏

وفيه‏:‏ أنه يجب أن يطلب الرجل خلال أبيه المحمودة ويتبعها ويعمل مثلها؛ لقوله‏:‏ ‏(‏ارموا فإن أباكم كان راميًا‏)‏‏.‏

وفيه‏:‏ أن السلطان يجب أن يعلم المجودين أنه معهم أى فى حزبهم ومحب لهم كما فعل الرسول فى المجودين للرماية فقال‏:‏ ‏(‏وأنا مع بنى فلان‏)‏ أى‏:‏ أنا محب لهم ولفعلهم كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏المرء مع من أحب‏)‏‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أنه يجوز للرجل أن يبين عن تفاضل إخوانه وأهله وخاصته فى محبته، ويعلمهم كلهم أنهم فى حزبه ومودته، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنا معكم كلكم‏)‏ بعد أن كان أفراد إحدى الطائفتين‏.‏

وفيه‏:‏ أن من صار السلطان عليه فى جملة الحزب المناضلين له ألا يتعرض لمناوأته كما فعل القوم حين أمسكوا؛ لكون الرسول مع مناضليهم خوف أن يرموا فيسبقوا فيكون النبى مع من سبق فيكون ذلك حقا على النبى، وأمسكوا تأدبًا عليه، فلما أعلمهم أنه معهم أيضًا رموا؛ لسقوط هذا المعنى‏.‏

وفيه‏:‏ أن السلطان يجب أن يعلم بنفسه أمور القتال كما فعل- عليه السلام-‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ينتضلون‏)‏ يعنى‏:‏ يرمون‏.‏

تقول‏:‏ ناضلت الرجل‏:‏ راميته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أكثبوكم‏)‏ أى‏:‏ قربوا منكم‏.‏

تقول العرب‏:‏ أكثبك الصيد‏:‏ قرب منك‏.‏

والكثب‏:‏ القرب‏.‏

من كتاب الأفعال‏.‏

باب اللَّهْوِ بِالْحِرَابِ وَنَحْوِهَا

فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، بَيْنَا الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ عِنْدَ الرسول صلى الله عليه وسلم بِحِرَابِهِمْ، دَخَلَ عُمَرُ فَأَهْوَى إِلَى الْحَصَى فَحَصَبَهُمْ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏دَعْهُمْ يَا عُمَرُ‏)‏‏.‏

وقال عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عن مَعْمَرٌ‏:‏ فِى الْمَسْجِدِ‏.‏

هذا اللعب بالحراب هو سنة ليكون ذلك عدة للقاء العدو، وليتدرب الناس فيه، ولم يعلم عمر معنى ذلك حين حصبهم حتى قال له النبى صلى الله عليه وسلم-‏:‏ ‏(‏دعهم‏)‏‏.‏

ففيه من الفقه‏:‏ أن من تأول خطأ لا لوم عليه؛ لأن النبى لم يوبخ عمر على ذلك؛ إذ كان متأولا‏.‏

وفيه‏:‏ جواز مثل هذا اللعب فى المسجد؛ إذ كان مما يشمل الناس نفعه‏.‏

وقد تقدم بيان هذا فى باب‏:‏ أصحاب الحراب فى المسجد‏.‏

فى كتاب الصلاة‏.‏

باب الترسة وَالْمِجَنِّ

فيه‏:‏ أَنَس، كَانَ أَبُو طَلْحَةَ يَتَتَرَّسُ مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم بِتُرْسٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ حَسَنَ الرَّمْىِ، فَكَانَ إِذَا رَمَى يشَرَّف النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَيَنْظُرُ إِلَى مَوْضِعِ نَبْلِهِ‏.‏

وفيه‏:‏ سَهْلٍ، لَمَّا كُسِرَتْ بَيْضَةُ الرسول صلى الله عليه وسلم عَلَى رَأْسِهِ، وَأُدْمِىَ وَجْهُهُ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَكَانَ عَلِىٌّ يَخْتَلِفُ بِالْمَاءِ فِى الْمِجَنِّ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

وفيه‏:‏ عُمَرَ، كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِى النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِىَ فِى الْكُرَاعِ وَالسِّلاحِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه ركوب شيء من الغدر للإمام لحرصه على معاينة نكاية العدو وإن كان احتراس الإمام خطيرًا، وليس كسائر الناس فى ذلك بل هو آكد‏.‏

وفيه‏:‏ اختفاء السلطان عند اصطفاف القتال؛ لئلا يعرف مكانه‏.‏

وفى حديث سعد‏:‏ جواز امتحان الأنبياء وإيلامهم، ليعظم بذلك أجرهم ويكون أسوة لمن ناله جرح وألم من أصحابه، فلا يجدون فى أنفسهم مما نالهم غضاضة، ولا يجد الشيطان السبيل إليهم بأن يقول لهم‏:‏ تقتلون أنفسكم وتحملون الآلام فى صون هذا، فإذا أصابه ما أصابهم فقدت هذه المكيدة من اللعين، وتأسى الناس به فجدوا فى مساواتهم له فى جميع أحواله‏.‏

وفيه‏:‏ خدمة السلطان‏.‏

وفيه‏:‏ بذل السلاح فيما يضرها إذا كان فى ذلك منفعة لخطير الناس‏.‏

وفيه دليل أن ترستهم كانت مقعرة ولم تكن منبسطة فلذلك كان يمكن حمل الماء بها‏.‏

وفيه‏:‏ أن النساء ألطف بمعالجة الرجال والجرحى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فرقىء الدم‏)‏ قال صاحب العين‏:‏ يقال‏.‏

رقأ الدم والدمع رقوءًا‏:‏ سكن بعد جريه‏.‏

باب فيه‏:‏ مَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ، صلى الله عليه وسلم يُفَدِّى رَجُلا بَعْدَ سَعْدٍ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏ارْمِ فِدَاكَ أَبِى وَأُمِّى‏)‏

قال المهلب‏:‏ هذا مما خص به سعد، وفيه دليل أن الرجل إذا كان له أبوان وإن كانا على غير دينه فلهما عليه حرمة وحق؛ لأنه لا يفدى إلا بذى حرمة ومنزلة، وإلا لم يكن يفديه، ولا فضيلة للمفدي‏.‏

فمن هاهنا قال مالك‏:‏ إنه من آذى مسلمًا فى أبويه الكافرين عوقب وأدب لحرمتهما عليه‏.‏

وقال الطبرى‏:‏ فى هذا الحديث دلالة على جواز تفدية الرجل الرجل بأبويه ونفسه، وفساد قول منكرى ذلك، فإن ظن ظان أن تفدية الرسول من فداه بأبويه إنما كان لأن أبويه كانا مشركين، فأما المسلم فغير جائز أن يفدى مسلمًا ولا كافرًا بنفسه ولا بأحد سواه من الإسلام، واعتلالا بما روى أبو سلمة قال‏:‏ أخبرنى مبارك، عن الحسن قال‏:‏ ‏(‏دخل الزبير على الرسول وهو شاك، فقال‏:‏ كيف تجدك جعلنى الله فداك‏؟‏ فقال له‏:‏ أما تركت إفداء بيتك بعد‏)‏ قال الحسن‏:‏ لا ينبغى أن يفدى أحد أحدًا، ورواه المنكدر، عن أبيه قال‏:‏ ‏(‏دخل الزبير‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ فذكره‏.‏

قلت‏:‏ هذه أخبار واهية لا يثبت مثلها حجة فى الدين؛ لأن مراسيل الحسن أكثرها عن غير سماع، وإذا وصل الأخبار فأكثر رواته عن مجاهيل لا يعرفون، والمنكدر بن محمد عند أهل النقل لا يعتمد على نقله، ولو صحت هذه الأخبار لم يكن فيها حجة فى إبطال حديث على؛ إذ لا ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏ فى حديث الزبير أن النبى نهاه عن قول ذلك، بل إنما قال له فيه‏:‏ ‏(‏أما تركت إفداء بيتك بعد‏)‏ والمعروف من قول القائل إذا قال‏:‏ فلان لم يترك إفداء بيته، وإنما يشبه إلى الجفاء لا إلى نقل ما لا يجوز فعله، وأعلمه أن غيره من القول والتحية ألطف وأورق منه، وسيأتى شيء من هذا المعنى فى كتاب الأدب إن شاء الله‏.‏

باب الدَّرَقِ

فيه‏:‏ عَائِشَةَ، دَخَلَ عَلَىَّ الرسول صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِى جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ- فذكر الحديث- وَكَانَ يَوْمُ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ- إلى قوله‏:‏ ‏(‏دُونَكُمْ بَنِى أَرْفِدَةَ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

قد تقدم القول فى هذا الحديث فى كتاب الصلاة وغيره‏.‏

وفيه‏:‏ أن الدرق من آلات الحرب التى ينبغى لأهلها اتخاذها والتحرز بها من أسلحة العدو، وأن أصحاب النبى استعملوها فى ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏دونكم‏)‏ يحضهم على ما هم فيه من اللعب بالحراب والدرق؛ لأن فى ذلك منفعة وتدريبًا وعدة للقاء العدو‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏بنى أرفدة‏)‏ نسبهم إلى جدهم وكان يسمى أرفدة‏.‏

باب الْحَمَائِلِ وَتَعْلِيقِ السَّيْوفِ بِالْعُنُقِ

فيه‏:‏ أَنَس، كَانَ رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ، وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَيْلَةً فَخَرَجُوا نَحْوَ الصَّوْتِ، فَاسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدِ اسْتَبْرَأَ الْخَبَرَ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لأبِى طَلْحَةَ عُرْىٍ، وَفِى عُنُقِهِ السَّيْفُ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

قد تقدم القول فى هذا الحديث قبل هذا، وإنما فائدة هذا الباب أن السيوف تتقلد فى الأعناق بخلاف قول من اختار أن يربط السيف فى الحزام ولا يتقلد فى العنق، وليس فى شىء من هذا حرج‏.‏

باب حِلْيَةِ السُّيُوفِ

فيه‏:‏ أَبُو أُمَامَةَ، لَقَدْ فَتَحَ الْفُتُوحَ قَوْمٌ مَا كَانَتْ حِلْيَةُ سُيُوفِهِمُ الذَّهَبَ وَلا الْفِضَّةَ، إِنَّمَا كَانَتْ حِلْيَتُهُمُ الْعَلابِىَ وَالآنُكَ وَالْحَدِيدَ‏.‏

العلابى ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏‏.‏

قال صاحب العين‏:‏ رمح منقلب ومقلوب مجاوز بالعلباء‏.‏

والعلباء عصب العنق، يقال‏:‏ علبت السيف أعلبه علبًا‏:‏ إذا حزمت مقبضه بعلباء البعير‏.‏

وقال المهلب‏:‏ فيه أن الحلية المباحة من الذهب والفضة فى السيوف إنما كانت ليرهب بها على العدو، فاستغنى أصحاب رسول الله صلى- الله عليه وسلم- بشدتهم على العدو وقوتهم فى الإيقاع بهم والنكاية لهم عن إرهاب الحلية؛ لإرهاب الناس وشجاعتهم، والآنك‏:‏ الرصاص وهو الأسرب‏.‏

باب مَنْ عَلَّقَ سَيْفَهُ بِالشَّجَرِ فِى السَّفَرِ عِنْدَ الْقَائِلَةِ

فيه‏:‏ جَابِر، أَنَّهُ غَزَا مَعَ الرسول صلى الله عليه وسلم قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ النَّبِى صلى الله عليه وسلم، أَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ فِى وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ، فَنَزَلَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَنَزَلَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ سَمُرَةٍ، وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ، وَنِمْنَا نَوْمَةً، فَإِذَا النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُونَا، وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِىٌّ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَىَّ سَيْفِى، وَأَنَا نَائِمٌ فَاسْتَيْقَظْتُ، وَهُوَ فِى يَدِهِ صَلْتًا‏)‏، فَقَالَ‏:‏ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّى‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ ‏(‏اللَّهُ، ثَلاثًا‏)‏، فَشَامَ السَّيْف وَلَمْ يُعَاقِبْهُ، وَجَلَسَ‏.‏

وترجم له ‏(‏باب‏:‏ تفرق الناس عن الإمام عند القائلة والاستظلال بالشجر‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه أن تعليق السيف والسلاح فى الشجر صيانة لها من الأمر المعمول به‏.‏

وفيه‏:‏ أن تعليقها على بعد من صاحبها من الغرر لا سيما فى القائلة والليل؛ لما وصل إليه هذا الأعربى من سيف الرسول‏.‏

وفيه‏:‏ تفرق الناس عن الإمام عند القائلة وطلبهم الظل والراحة، ولكن ليس ذلك فى غير الرسول إلا بعد أن يبقى معه من يحرسه من أصحابه؛ لأن الله تعالى قد كان ضمن لنبيه أن يعصمه من الناس‏.‏

وفيه‏:‏ أن هذه القضية كانت سبب نزول هذه الآية‏.‏

وروى ابن أبى شيبة قال‏:‏ حدثنا أسود بن عامر، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة قال‏:‏ ‏(‏كنا إذا نزلنا طلبنا للنبى أعظم شجرة وظلها، قال‏:‏ فنزلنا تحت شجرة، فجاء رجل وأخذ سيفه فقال‏:‏ يا محمد، من يعصمك منى‏؟‏ قال‏:‏ الله؛ فأنزل الله‏:‏ ‏(‏والله يعصمك من الناس‏}‏‏.‏

وفيه‏:‏ أن حراسة الإمام فى القائلة والليل من الواجب على الناس، وأن تضييعه من المنكر والخطأ‏.‏

وفيه‏:‏ دعاء الإمام لأتباعه إذا أنكر شخصًا وشكوى من أنكره إليهم‏.‏

وفيه‏:‏ ترك الإمام معاقبة من جفا عليه وتوعده إن شاء، والعفو عنه إن أحب‏.‏

وفيه‏:‏ صبر الرسول وحلمه وصفحه عن الجهال‏.‏

وفيه‏:‏ شجاعته وبأسه وثبات نفسه صلى الله عليه ويقينه أن الله ينصره ويظهره على الدين كله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فشام السيف‏)‏ يعنى‏:‏ أغمده‏.‏

وشامه أيضًا‏:‏ سله وهو من الأضداد‏.‏

باب لُبْسِ الْبَيْضَةِ

فيه‏:‏ سَهْل، جُرْحِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَهُشِمَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

هذه الأبواب كلها التى ذكرت فيها آلات الحرب وأنواع السلاح وأن الرسول وأصحابه استعملوها واتخذوها للحرب وإن كان الله قد وعدهم بالنصر وإظهار الدين فليكون ذلك سنة للمؤمنين؛ إذ الحرب سجال مرة لنا ومرة علينا، وقد أمر باتخاذها فى قوله‏:‏ ‏(‏وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم‏}‏ فأخبر أن السلاح فيها إرهاب العدو، وفيها أيضًا تقوية لقلوب المؤمنين من أجل أن الله تعالى جبلها على الضعف، وإن كانت السلاح لا تمنع المنية لكن فيها تقوية للقلوب وأنس لمتخذيها‏.‏

باب مَنْ لَمْ يَرَ كَسْرَ السِّلاحِ عِنْدَ الْمَوْتِ

فيه‏:‏ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، مَا تَرَكَ الرسول صلى الله عليه وسلم إِلا سِلاحَهُ، وَبَغْلَةً بَيْضَاءَ، وَأَرْضًا صَدَقَةً‏.‏

قال المهلب‏:‏ كان أهل الجاهلية إذا مات سلطانهم أو رئيسهم عهد بكسر سلاحه وحرق متاعه وعقر دوابه، فخالف الرسول فعلهم وترك بغلته وسلاحه وأرضه غير معهود فيها بشيء إلا صدقة فى سبيل الله‏.‏